المبتعث .. والعلاقة الأسريّة !
العلاقة الزوجيّة هي أحد أهم القرارات في حياة ( الإنسان ) بعد ( الدّين ) و ( التديّن ) .
وذلك أن هذه العلاقة هي العلاقة الوحيدة التي وصفهاالله تعالى في كتابه بـ ( الميثاق الغليظ في قوله : ( وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ) [ النساء : 21 ] .
وهي العلاقة التي جعلها ( الوحي ) الميزان الأدق للأخلاق .
فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( خيركم خيركم لأهله وانا خيركم لأهلي ) .
كما أنها العلاقة التي من خلالها ( يُصاغ ) المجتمع و ( تُبنى ) الحضارات ، وعلى قدر ما يكون هذا الكيان الصغير مستقرّاً آمنا واعياً على قدر ما تنضج حضارة الأمّة .
وإن من أخطر المنعطفات التي تواجه ( العلاقة الأسريّة ) هو منعطف ( الابتعاث ) وتكمن خطورة هذا المنعطف عل ى الأسرة من جهة :
1 - الغربة والبُعد بين ( الطرفين ) فيما إذا كان أحدهما مبتعث والآخر غير مبتعث .
فالبعد بين الزوجين لفترات طويلة قد يتسبب في نوع من الجفاء العاطفي بينهما.
2 - اختلاف القيم ( التربوية والمجتمعيّة ) التي نشأ عليها ( كليهما ) عن قيم المجتمع ( الغربي ) .
هذا الاختلاف ربما يشكّل نوع من الصّدام ( النفسي ) و ( المجتمعي ) مع المجتمع الجديد .
ولو أخذنا على سبيل المثال :
- الحجاب .
فالحجاب أحد القيم ، والمبادئ التي هي ذاتها ( هوية ) للمرأة المسلمة الحرّة . والأمر في بلاد الغرب بعكس ذلك .
ماهو الحجاب المطلوب هنا وما هو الحجاب المطلوب هناك !
كيف يمكن أن تتعايش الزوجة في بلد لا يعطي للحجاب قيمة !
كيف يمكن أن يتقبّل الزوج ( الغيور ) حجاب زوجته في تلك البلاد ؟!
هذه التساؤلات تعطي نوع من الدلالة على الإشكالية التي قد تواجه ( الزوجان ) في بلد الابتعاث .
- الاختلاط في البيئة التعليمية .
فالبيئة الدراسيّة في بلد الابتعاث ( غالباً ) ما تكون بيئة دراسيّة مختلطة ، وحين أقول مختلطة يعني أنها تجمع بين الجنسين في قاعة او في محيط واحد على اختلاف أعراق الطلاب والطالبات وأفكارهم وثقافاتهم ..
هذه البيئة الدارسيّة المختلطة ، ستثير تساؤلات ( مشكلة ) !
ما هو موقف الزوجة ( الغيورة ) من زوجها الذي يدرس في مكان مختلط بطالبات لن يكنّ - بالتأكيد - بالمستوى الذي تعرفه في بلدها من الحجاب والتحرّز عن الرجال .
وما موقف الزوج من أن تدرس زوجته في معهد أو كلية مختلطة بالشّباب ونحو ذلك .
هذا النوع من الإشكالاات في التصادم القيمي ربما يجعل الطرفين أو احدهما على حافّة من الصراع النفسي ، وقد يجعله في المستقبل على حافّة من المشكلات المتراكمة مع شريك حياته .
3 - ضعف أو انعدام ( وازع ) الرقابة المجتمعيّة .
العري ، والخمور ، والأندية الليلية ، والتفسّخ وظهور المنكرات وكبائر الذنوب بلا أي وازع رقابي اجتماعي . يُضعف في النفس ( الموقف من المعصية ) - كمسلمين - وهذا بالطبع - مهما يكن - سيكون له الأثر السلبي على ( الزوج والزوجة المسلمة ) وهم يقيمون في بيئة موبوءة بمثل هذا التفلّت .
4 - الدراسة والتكاليف .
في بلد الابتعاث يدرس الزوج ، وتدرس الزوجة .
قد لا يلتقيان ( وقتاً ) طويلاً في البيت . في الوقت الذي يرجع في ربما تخرج هي .. وهكذا ، هذا الوضع يسبب نوعاً من الملل أو ( الالتفات ) !
كما أن ( التكاليف الماديّة ) هناك قد تسبب نوعاً من الإرهاق للأسرة هناك الأمر الذي قد ينشأ عنه نقطة ( تنازع ) بين الطرفين .
5 - الصدام الثقافي في تعليم الأبناء وتربيتهم .
ما يقوم عليه التعليم هناك للأطفال يختلف تماماً على النبادئ والقيم التي يقوم عليهاالتعليم في بلاد المسلمين .
هذا الاختلاف يسبب عند الطفل نوع من التصادم الثقافي حين يسمع من والديه شيئا ، ثم يسمع نقيضه في الجو المدرسي !
إضافة إلى أن حاجز ( اللغة ) سيشكّل عبئاً على الطفل في ذلك المجتمع ، وعبئا عليه ايضا ما لو رجع إلى مجتمعه .
هذه الأمور وغيرها بالطبع سيكون لها تاثيرها على العلاقة الزوجيّة والأسرية في بلد الابتعاث .
وفي بقيّة أسطر هذا المقال يمكن أن نطرح بعض التوجيهات التي يجدر بكل زوج وزوجة أخذها في الاعتبار قبل الابتعاث أو في بلد الابتعاث .
أولاً : أهمية التأهيل المبكّر للزّوجين .
وأعني بذلك التأهيل ( الزوجي والأسري ) من خلال زيادة المعرفة والتثقيف بطبيعة العلاقة الزوجية ومهاراتها وفلسفة التعامل والتعاطي مع شريك الحياة .
وهذا يمكن أن يكون عبر دورات متخصّصة ، والقراءة في الكتب التي تُعنى بذلك . المعرفة تقود إلى الحوار والتفاهم والتعقّل .
ولأن الاستقرار في الحياة الزوجية من أهم مقوّماته هو معرفة المهارات والنفسيات وأساليب التعامل مع شريك الحياة .
مهم جداً في بلد الغربة أن يكون الزوج والزوجة على قدر من :
- التفهّم .
فلابيئة هناك فيها كثير من المتغيرات ، وتحتاج إلى نوع من التفهّم .
- التواصل .
مهما كانت المُشغلات ينبغي أن يكون هناك تواصل تعاطفي جسدي حسّي معنوية بين الزوجين والاهتمام بحاجة شريك حياتك .
- احترام قدسية العلاقة بينهما .
فالزواج ( عبادة ) سواءً كان هنا أو هناك .
ثانياً : التأهيل الإيماني .
بالمحافظة على أهم ركائز الإيمان في حياة المسلم بعد تعظيم الله بـ ( التوحيد ) تعظيمه بـ ( الصلاة ) .
الصلاة كماأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنها ( والصلاة نور ) ، ومن مهمّة النور أنه يكشف لك الطريق ، ويزيدك أنساً ، ويجعلك ترى الأمور على ما هي عليه .
وفي تلك البلاد يحتاج المؤمن إلى هذاالنّور العظيم .
إضافة إلى أنه بحاجة إلى أن يكوّن بينه وبين زوجته وافراد اسرته من البنين والبنات ( مجتمعاً إيمانيّاً مصغّراً ) في تلك البلاد .
أن يخصّص وقتاً لمدارسة القرآن مع زوجته وابنائه .
أن يخصّص وقتاً لقراءة السيرة النبوية مع زوجته وأبنائه .
هذاالارتباط الإيماني يجعل ( حبل الانتماء والولاء ) للدّين قويّاً في ظل مجتمع يعجّ بالسفاسف من الأمور .
في بلد الغربة يجدر بالزوج - خاصة - وبالزوجة - خصوصاً - :
- البُعد عن مواطن الرّيب .
- الحرص على حفظ ( النّظر ) .
- الاجتهاد في تنمية الإيمان والتربية الروحية .
ثالثاً : دستور العائلة في بلاد الغربة .
ينبغي أن يتفق الزوجان قبل السّفر أو حتى وهم في بلد الابتعاث على دستور ( توافقي ) بينهما للتعاطي مع المتغيرات في تلك البلاد .
وأعني بالمتغيرات هنا ( المتغيرات القيميّة ) ..
هذاالتوافق ( المرن ) ينبغي أن يكون بالطبع في حدود ( المشروع ) وعدم تجاوزه .
كالتوافق على مسألة الحجاب والاختلاط ، ونحو ذلك من المتغيرات ( القيمية ) في بلد الغربة . على أن يكون التعامل معها وفق ( المشروع ) في ديننا .
وربما في هذا الجانب قد يحصل نوع من الاختلاف والأخذ والردّ ، لذا يمكن توسيط أحد العقلاء النّاصحين لتقريب وجهات النّظر ، والخروج بدستور توافقي بين الزوج وزوجته .
هذا التوافق ينبغي أن يقوم على ثلاثة أسس مهمّة:
- المشروع . ( شرعاً ) .
- الاحترام بين الطرفين .
- الثقة بينهما .
رابعاً : لا تعزل أبناءك عن مجتمعهم وهم في بلد الغربة .
حقيقة لا أزال أرى الحسرة وهي تعلو وجه ذاك الشابالدكتور الذي عاد من بلاد الغربة وهم يحمل أعلى الشهادات في تخصّصه ، ومع ذلك كانت تعلوه حسرة !
سألته عن ذلك !
فأجابني : أنه متأسّف لحال ابنائه الصّغار الذين لا يجيدون لغة مجتمعهم كيف سيتعايشون الآن مع أهلهم وقرناءهم من أبناءا لعائلة !
بل كيف سينسجمون في البيئة الدراسية في مجتمعنا بعد أن اعتادوا الدراسة في بيئة لها ثقافتها وطريقتها في التعليم والتوجيه .
لذلك جدير بكل أب وأم أن لا يعزل أبناءه عن مجتمعه وهم في بلاد الغربة ، ومن النصائح في ذلك :
- لا تتحدّث مع أبنائك إلاّ باللغة العربية مهما يكن الأمر .
- خصّص وقتاً لتعليمهم الحروف العربية وقراءة القرآن .
- من الجيد ربطهم بمتابعة القنوات الهادفة والمحافظة والتي تتحدّث باللغة العربية .
- تكوين مجموعات في بلاد الغربة مع العرب بحيث يُنبّه على الجميع أن تكون لغة التخاطب هي اللغة العربية .
- تعزيز قيمة الانتماء عند الطفل للدين والوطن . من خلال اللغة ، اللباس ، الالتزام بالشعائر الظاهرة ، الاهتمام بالقران ، التأكيد على قيمة الأرض المباركة ونحو ذلك .
خامساً : المستشار الأسري .
من الجيد أن يكون للأسرة في بلاد الغربة تواصلاً مع ( مستشار أسري ناصح أمين ) فإن كثرة الالتزامات هناك والمُشغلات قد تقلل من قدرة الشّخص على أن يرى أموره الزوجية بصورة ( واضحة ) فيحتاج إلى من يوجّهه وينصحه .
أخيراً :
- من الأبعاد المهم إدراكها في مثل هذا المقام : استشعار أن ( السّفر قطعة من العذاب ) . وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( السَّفَرُ قِطعةٌ مِن العذَابِ يمنَعُ أحَدَكم نومَه وطعامَه وشرابَه ولذَّتَه فإذا فرَغ أحَدُكم مِن حاجتِه فلْيتعجَّلْ إلى أهلِه )
معرفة واستشعار هذاالبُعد يجعل المبتعث أكثر تركيزاً على هدفه ( في الابتعاث ) ويعطي للطرفين مجالاً للتفهّم لما قد يحصل من منغّصات في العلاقة بسبب ذلك .
لذلك ( فإذا فرَغ أحَدُكم مِن حاجتِه فلْيتعجَّلْ إلى أهلِه ) .
- إدراك أن بناء ( الحضارة ) لا تكفي فيه الشهادات العليا .. حتى نحسن ( البناء الزوجي والأسري ) ..
فعلى قدر ( الرّقي ) في البناء ( الأسري ) بقدر ما نبني حضارة مجتمعيّة راقية .
فالشهادات وحدها لا تكفي !
الكاتب : أ. منير بن فرحان الصالح