الأسد في بستان فيروز !
حكي أن ملكاً طلع يوماً إلى أعلى قصره يتفرج ،
فلاحت منه إلتفاتة فرأى امرأة على سطح دار إلى جانب قصره لم ير الراؤون أحسن منها.
فإلتفت إلى إحدى جواريه فقال لها : لمن هذه ؟
فقالت : يا مولاي هذه زوجة غلامك فيروز ..!
فنزل الملك وقد خامره حبها وشغف بها. ، فإستدعى فيروز .. وقال له : يا فيروز ..
قال : لبيك يا مولاي ..
قال : خذ هذا الكتاب وامض به إلى البلد الفلانية وائتني بالجواب !!
فأخذ فيروز الكتاب وتوجه إلى منزله فوضع الكتاب تحت رأسه ، وجهّز أمره وبات ليلته . فلما أصبح ودّع أهله وسار طالبا لحاجة الملك ولم يعلم بما قد دبره الملك .
وأما الملك فإنه لما توجه فيروز قام مسرعاً وتوجه متخفيا إلى دار فيروز فقرع الباب قرعا خفيفا ..
فقالت إمرأة فيروز : من بالباب ؟
قال : أنا الملك سيد زوجك ..
ففتحت له .. فدخل وجلس .. فقالت له : أرى مولانا اليوم عندنا !!
فقال : زائر ..
فقالت : أعوذ بالله من هذه الزيارة وما أظن فيها خيراً .
فقال لها : ويحك إنني الملك سيد زوجك وما أظنك عرفتيني ..
فقالت : بل عرفتك يا مولاي ولقد علمت أنك الملك ولكن سبقتك الأوائل في قولهم :
سأترك ماءكم من غير ورد : : وذاك لكثرة الورّاد فيه
إذا سقط الذباب على طعام : : رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء: : إذا كان الكلاب ولغن فيه
ويرتجع الكريم خميص بطن : : ولا يرضى مساهمة السفيه
وما أحسن يا مولاي قول الشاعر :
قل للذي شفّه الغرام بنا : : وصاحب الغدر غير مصحوب
والله لا قال قائل أبداً: : قد أكل الليث فضلة الذيب !!
ثم قالت : أيها الملك تأتي إلى موضع شرب كلبك تشرب منه ؟!!
فاستحيا الملك من كلامها وخرج وتركها ، ونسي نعله في الدار . هذا ما كان من الملك
وأما ما كان من فيروز ..
فإنه لما خرج وسار تفقد الكتاب فلم يجده معه في رأسه ، فتذكر أنه نسيه تحت فراشه ، فرجع إلى داره فوافق وصوله عقب خروج الملك من داره فوجد نعل الملك في الدار ..!!
فطاش عقله وعلم أن الملك لم يرسله في هذه السفرة إلا لأمر يفعله ، فسكت ولم يبد كلاما وأخذ الكتاب وسار إلى حاجة الملك فقضاها ثم عاد إليه فأنعم عليه بمائة دينار .. فمضى فيروز إلى السوق وشترى ما يليق بالنساء .. وهيأ هدية حسنة ، وأتى إلى زوجته فسلم عليها وقال لها : قومي إلى زيارة بيت أبيك .
قالت : وما ذاك ؟
قال : إن الملك أنعم علينا وأريد أن تظهري لأهلك ذلك.
قالت : حبا وكرامة.
ثم قامت من ساعتها وتوجهت إلى بيت أبيها ففرحوا بها وبما جاءت به معها ..
فأقامت عند أهلها شهراً .. فلم يذكرها زوجها ولا ألمّ بها. فأتى إليه أخوها وقال له : يا فيروز إما أن تخبرنا بسبب غضبك وإما أن تحاكمنا إلى الملك ..!
فقال : إن شئتم الحكم فافعلوا فما تركت لها عليّ حقاً ..
فطلبوه إلى الحكم فأتى معهم وكان القاضي إذ ذاك عند الملك جالساً إلى جانبه ..
فقال أخو الصبية : أيد الله مولانا قاضي القضاة ، إني أجرت هذا الغلام بستانا سالم الحيطان ببئر ماء معين عامرة وأشجار مثمرة فأكل ثمره وهدّم حيطانه وأخرب بئره .!
فالتفت القاضي إلى فيروز وقال له : ما تقول يا غلام ؟
فقال فيروز : أيها القاضي قد تسلمت هذا البستان وسلمته إليه أحسن مما كان .
فقال القاضي : هل سلم إليك البستان كما كان؟
قال : نعم ولكن أريد منه السبب لرده ..!!
قال القاضي : ما قولك ؟
قال : والله يا مولاي ما رددت البستان كراهة فيه وإنما جئت يوماً من الأيام فوجدت فيه أثر الأسد فخفت أن يغتالني ، فحرمت دخول البستان إكراما للأسد !
وكان الملك متكئا .. فاستوى جالسا فقال : يا فيروز إرجع إلى بستانك آمناً مطمئنا فوالله إن الأسد دخل البستان ولم يؤثر فيه أثراً ولا التمس منه ورقا ولا ثمرا ولا شيئاً ولم يلبث فيه غير لحظة يسيرة وخرج من غير بأس ، ووالله ما رأيت مثل بستانك ولا أشد إحترازا من حيطانه على شجره ..
فرجع فيروز إلى داره ورد زوجته ، ولم يعلم القاضي ولا غيره بشيء من ذلك !!!
قال ناصح :
أحفظوا أسرار بيوتكم ..
مهما كانت المشكلات بينكما ، فإن وجود المشكلات ليس مبرراً لكشف الأوراق ، ونشر الغسيل المتسخ أمام النّاس !
فإن الله قال : ( فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) [ البقرة : 229 ] .
وإن من الإحسان : حفظ السر ، والسّتر .
وحتى لو اضطر أحد الزوجين للبوح بمشكلاته ، فإن الضرورة تقدّر بقدرها .
إن مما يساعد على حفظ أسرار البيوت :
1 - أن نتذكّر الفضل الذي بيننا ، واللحظات الجميلة التي كانت في يوم من الأيام .
قال الله تعالى : ( وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ) [ البقرة : 237 ] .
2 - استشعار معنى ( إنَّ اللهَ تعالى حييٌّ سِتِّيرٌ ، يُحبُّ الحياءَ والسَّترَ ) [ صحيح الجامع : 1756 ] .
فالستر عمل صالح يحبه الله تعالى ويجازي عليه بالستر .
فإن ابن آدم كله عورات ولولا ستر الله لتفاضح الناس وافتضحوا فيما بينهم .
3 - تذكّر عواقب الفضيحة على الأسرة والأبناء .
فإن الناس في المجتمع قد لا تدرك التفاصيل فيما كان بينكما ، لكنهم يمكن أن يبنوا حكماً عاماً على الأسرة وأبنائها من خلال ( فضيحة ) انتشرت وربما كان مبالغاً فيها !
4 - تحكيم و استشارة الثقات والأمناء العقلاء من الأهل .
5 - التعوّد على ( التعريض ) بالمشكلة دون الدخول في التفاصيل بشكل مؤذي للسامع والمتكلم .
6 - تربية النفس على التسامح والعفو ، والبعد عن الانتقام .
الكاتب : أ. منير بن فرحان الصالح