رؤيا في السماء
قال أبو الخالد الأحوال الزاهد: لما ماتت امرأة شيخنا أبي ربيعة الفقيه الصوفي، ذهبت مع جماعة من الناس فشهدنا امرها؛ فلما فرغوا من دفنها وسوى عليها، قام شيخنا على قبرها وقال: يرحمك الله يا فلانة!
الآن قد شفيت أنت ومرضت أنا، وعوفيت وابتليت، وتركتني ذاكرا وذهبت ناسيا، وكان للدنيا بك معنى، فستكون بعدك بلا معنى؛ وكانت حياتك لي نصف القوة، فعاد موتك لي نصف الضعف؛ وكنت أرى الهموم بمواساتك هموما في صورها المخففة، فستأتيني بعد اليوم في صورها المضاعفة؟ وكان وجودك معي حجابا بيني وبين مشقات كثيرة، فستخلص كل هذه المشاق إلى نفسي؛ وكانت الأيام تمر اكثر ما تمر في رقتك وحنانك، فستأتيني اكثر ما تأتي متجردة في قسوتها وغلظتها. أما أنا والله لم أرزأ منك في امرأة كالنساء، ولكني رزئت في المخلوقة الكريمة التي أحسست معها أن الخليقة كانت تتطلف بي من أجلها!
قال أبو الخالد: ثم استدمع الشيخ، فأخذت بيده ورجعنا إلى داره، وهو كان اعلم يما يعزى الناس بعضهم بعضا، واحفظ لما ورد في ذلك؛ غير أن الكلام ساعات تبطل فيها معانيه أو تضعف، إذ تكون النفس مستغرقة الهم في معنى واحد قد انحصرت فيه، إما من هول الموت، أو حب وقع فيه من الهول ظل الموت، أو رغبة وقع فيها ظل الحب، أو لجاجة وقع فيها ظل الرغبة. فكنت أحدثه واعزيه، وهو بعيد من حديثي وتعزيتي؛ حتى انتهينا إلى الدار فدخلنا وما فيها أحد؛ فنظر يمنة ويسرة، وقلب عينيه ههنا وههنا، وحوقل واسترجع، ثم قال: الآن ماتت الدار أيضا يا أبا خالد! إن البناء كأنما يحيا بروح المرأة التي تتحرك في داخله؛ وما دام هو الذي يحفظها للرجل، فهو في عين الرجل كالمطرف تلبسه فوق ثيابها من فوق جسمها: وانظر كم بين أن ترى عيناك ثوب امرأة في يد الدلال في السوق، وبين أن تراه عيناك يلبسها وتلبسه! ولكنك يا أبا خالد لا تفقه من هذا شيئا، فأنت رجل آليت لا تقرب النساء ولا يقربنك، ونجوت بنفسك منهن وانقطعت بها لله؛ وكأن كل نساء الأرض قد شاركن في ولادتك فحرمن عليك! وهذا مالا افهمه أنا إلا ألفاظا، كما لا تفهم أنت ما أجده الساعة إلا ألفاظا؛ وشتان بين قائل يتكلم من الطبع، وبين سامع يفه بالتكلف.
فقلت له يا أبا ربيعة، وما يمنعك الآن وقد أطرحت أثقالك وانبتب أسبابك من النساء - أن تعيش خفيف الظهر، وتفرغ للنسك والعبادة، وتجعل قلبك كالسماء انقشع غيمها فسطعت فيها الشمس؛ فإنه يقال: إن المرأة ولو كانت صالحة قانتة - فهي في منزل الرجل العابد مدخل الشيطان اليه، ولو أن هذا العابد كان يسكن في حسناته لا في دار من الطوب والحجارة لكانت امرأته كوة يقتحم الشيطان منها. ولقد كان آدم في الجنة، وبينهما وبين الأرض سماوات وأفلاك، فما منع ذلك أن تتعلق روح الأرض بالشيطان، فيتعلق الشيطان بحواء، وتتعلق هي بآدم؛ ومكر الشيطان فصور لهما في صيغة مسئلة علمية، ومكرت حواء فوضعت فيها جاذبية اللحم والدم، فلم تعد مسئلة علم ومعرفة، بل مسئلة طبع ولجاجة. فأكَلا منها فَبدَتْ لهما سَوْءَاتُهُمَا. وهل اجتمع الرجل والمرأة من بعدها على الأرض إلا كانا من نصب الحياة وهمومها، وشهواتها ومطامعها، ومضارها ومعايبها - في معنى (بَدَتْ لهما سَوَْآتُهُمَا). . .؟
كلانا يا أبا ربيعة ممن لهم سير بالباطن في هذا الوجود غير السير بالظاهر، وممن لهم حركة بالفكر غير الحركة بالجسم؛ فقبيح بنا أن نتعلق أدنى متعلق بنواميس هذا الكون اللحمي الذي يسمى المرأة؛ فهو تدل وإسفاف منا. ولعلك تقول: (النسل وتكثير الآدمية.) فهذا إنما كتب على إنسان الجوارح والاعضاء، أما إنسان القلب فله معناه وحكم معناه؛ إذ يعيش بباطنه، فيعيش ظاهره في قوانين هذا الباطن، لا في قوانين ظاهر الناس. وإنه لشر كل ما نقلك إلى طبع أهل الجوارح وشهواتهم، فزين لك ما يزين لهم، وشغلك بما يشغلهم؛ فهذا عندنا - يرحمك الله - باب كأنه من أبواب المجون الذي ينقل الرجل إلى طبع الصبي.
فاطمس يا أخي على موضعها من قلبك، وألق النور على ظلها؛ فالنور في قلب العابد نور التحويل إن شاء، ونور الرؤية إن شاء، يرى به المادة كما يريد أن تكون لا كما تكون. وأنت قد كانت فيك امرأة، فحولها صلاة وأعمل بنورك عكس ما يعمل أهل الجوارح بظلامهم، فقد تكون في أحدهم الصلاة فيحولها امرأة. . .
قال أبو ربيعة: تالله أنه لرأي؛ والوحدة بعد الآن أروح لقلبي، وأجمع لهمي؛ وقد خلعني الله مما كنت فيه، وأخذ القبر امرأتي وشهواتي معا، فسأعيش ما بقي لي فيما بقي مني. وزوال شئ في النفس هو وجود شيء آخر. ولقد انتهيت بالمرأة ومعانيها وأيامها إلى القبر، فالبدء الآن من القبر ومعانيه وأيامه.
وتواثقا على أن يسيرا معا في (باطن) الوجود. . .! وأن يعيشا في عمر هو ساعة معدودة اللحظات، وحياة هي فكرة مرسومة مصورة. قال أبو خالد: ورأيت أن أبيت عنده وفاء بحق خدمته، ودفعا للوحشة أن تعاوده فتدخل على نفسه بأفكارها ووساوسها. وكان قد غمرنا تعب يومنا، وأعيا أبو ربيعة وخذلته القوة؛ فلما صلينا العشاء قلت: يا أبا ربيعة، أحب لك أن تنعس فتريح نفسك ليذهب ما بك، فإذا استجممت أيقظتك فقمنا سائر الليل.
فما هو إلا أن اضطجع حتى غلبه النعاس. وجلست أفكر في حاله وما كان عليه وما اجتهدت له من الرأي؛ وقلت في نفسي: لعلني أغريته بما لا قبل له به، وأشرت عليه بغير ما كان يحسن بمثله فأكون قد غششته. وخامرني الشك في حالي أنا أيضا، وجعلت أقابل بين الرجل متزوجا عابدا، وبين الرجل عابدا لم يتزوج؛ وأنظر في ارتياض أجدهما بنفسه وأهله وعياله، وارتياض الآخر بنفسه وحدها؛ وأخذت أذهب وأجئ من فكر إلى فكر، وقد هدأ كل شئ حولي كأن المكان قد نام، فلم ألبث حتى أخذتني عيني فنمت واستثقلت، كأنما شددت شداً بحبال من النوم لم يجئ من يقطعها.
ورأيت في نومي كأنها القيامة وقد بعث الناس وضاق بهم المحشر، وأنا في جملة الخلائق، وكأننا من الضغطة حب مبثوث بين حجري الرحى. هذا والموقف يغلي بنا غليان القدر بما فيها، وقد أشتد الكرب وجهدنا العطش، حتى ما منا ذو كبد إلا وكأن الجحيم تتنفس على كبده، فما هو العطش بل هو السعار واللهب يحتدم بهما الجوف ويتأجج.
فنحن كذلك إذا ولدان يتخللون الجمع الحاشد، عليهم مناديل من نور، وبأيديهم أباريق من فضة وأكواب من ذهب، يملئون هذه من هذه بسلسال برود عذب، رؤيته عطش مع العطش، حتى ليلتوي من رآه من الأم، ويتلعلع كأنما كوى به على أحشائه.
وجعل الولدان يسقون الواحد بعد الواحد ويتجاوزون من بينهما وهم كثرة من الناس، وكأنما يتخللون الجمع في البحث عن أناس بأعيانهم ينضحون غليل أكبادهم بما في تلك الأباريق من روح الجنة ومائها ونسيمها.
ومر بي أحدهم، فمددت إليه يدي وقلت: (أسقني فقد يبست واحترقت من العطش!)
قال: (ومن أنت؟)
قلت: (أبو خالد الأحول الزاهد.)
قال: (آلك من أطفال المسلمين ولد افترطته صغيراً فاحتسبته عند الله؟)
قلت: (لا. . .)
قال: (ألك ولد كبر في طاعة الله؟)
قلت: (لا. .)
قال: (ألك ولد نالتك منه دعوة صالحة جزاء حقك عليه في إخراجه إلى الدنيا؟)
قلت: (لا. .)
قال: (ألك ولد من غير هؤلاء ولكنك تعبت في توميه، وقمت بحق الله فيه؟)
قلت: (يرحمك الله، إني كلما قلت (لا) أحسست (لا) هذه تمر على لساني كالمكواة الحامية. . .)
قال: (فنحن لا نسقي إلا إباءنا، تعبوا لنا في الدنيا، فاليوم نتعب لهم في الآخرة؛ وقدموا بين يديهم الطفولة، وإنما قدموا السنةً طاهرةً للدفاع عنهم في هذا الموقف الذي قامت فيه محكمة الحسنة والسيئة. وليس هنا بعد ألسنة الأنبياء أشد طلاقة من ألسنة الأطفال، فما للطفل معنى من معاني آثامكم يحتبس فيه لسانه أو يلجلج به)
قال أبو خالد: فجن جنوني، وجعلت أبحث في نفسي عن لفظة (ابن) فكأنما مسحت الكلمة من حفظي كما مسحت من وجودي؛ وذكرت صلاتي وصيامي وعبادتي، فما خطرت في قلبي حتى ضحك الوليد ضحكاً وجدت في معناه بكائي وندمي وخيبتي
وقال يا ويلك أما سمعت: (إن من الذنوب ذنوبا لا تكفرها الصلاة ولا الصيام، ويكفرها الغم بالعيال.) أتعرف من أنا يا أبا خالد؟
قلت: من أنت يرحمنا الله بك؟
قال: أنا ابن ذلك الرجل الفقير المعيل، الذي قال لشيخك إبراهيم بن أدهم العابد الزاهد: (طوبى لك فقد تفرغت للعبادة بالعزوبة.) فقال له إبراهيم: (لروعة تنالك بسبب العيال أفضل من جميع ما أنا فيه. . .). وقد جاهد أبي جهاد قلبه وعقله وبدنه، وحمل على نفسه من مقاساة الأهل والولد حملها الإنساني العظيم، وفكر لغير نفسه، وأغتم لغير نفسه، وعمل لغير نفسه، وآمن وصبر ووثق بولاية الله حين تزوج فقيراً، وبضمان الله حين أعقب فقيراً؛ فهو مجاهد في سبل كثيرة لا في سبيل واحدة كما يجاهد الغزاة؛ هؤلاء يستشهدون مرة واحدة، أما هو فيستشهد كل يوم مرة في همومه بنا، واليوم يرحمه الله بفضل رحمته إيانا في الدنيا. أما بلغك قول أبن المبارك وهو مع إخوانه في الغزو: (أتعلمون عملا أفضل مما نحن فيه؟ قالوا: ما نعلم ذلك. قال: أنا اعلم. قالوا فما هو؟ قال: رجل متعفف على فقره ذو عائلة قد قام من الليل، فنظر إلى صبيانه نياماً متكشفين، فسترهم وغطاهم بثوبه؛ فعمله أفضل مما نحن فيه. . .)
يخلع الأب المسكين ثوبه على صبيته ليدفئهم به ويتلقى بجلده البرد في الليل. إن هذا البرد - يا أبا خالد - تحفظه له الجنة هنا في حر هذا الموقف، كأنها مؤتمنة عليه إلى أن تؤديه. وإن ذلك الدفء الذي شمل أولاًده يا أبا خالد - هو هنا يقاتل جهنم ويدفعها عن هذا الأب المسكين. قال أبو خالد: ويهم الوليد أن يمضي ويدعني، فما أملك نفسي، فأمد يدي إلى الإبريق فأنشطه من يده، فإذا هو يتحول إلى عظم ضخم قد نشب في كفي وما يليها من أسلة الذراع فغابت فيه أصابعي، فلا أصابع لي ولا كف. وأبى الإبريق أن يسقيني وصار مثله بي، وتجسدت هذه الجريمة لتشهد علي، فأخذني الهول والفزع، وجاء إبريق من الهواء، فوقع في يد الوليد، فتركني ومضى
وقلت لنفسي: ويحك يا أبا خالد ما أراك إلا محاسبا على حسناتك كما يحاسب المذنبون على سيئاتهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله! وبلغتني الصيحة الرهيبة: أين أبو خالد الأحوال الزاهد العابد؟
قلت: هأنذا.
قيل: طاووس من طواويس الجنة قد حص ذيله فضاع أحسن ما فيه! أين ذيلك من أولاًدك وأين محاسنك فيهم، أخلقت لك المرأة لتتجنبها، وجعلت نسل أبويك لتتبرأ أنت من النسل؟
جئت من الحياة بأشياء ليس فيها حياة؛ فما صنعت للحياة نفسها إلا أن هربت منها وانهزمت عن ملاقتها، ثم أنت تأمل جائزة النصر على هزيمة. .!
عملت الفضيلة في نفسك ونشأتك ولكنها عقمت فلم تعمل بك. لك ألفً ألف ركعة وممثلها سجدات من النوافل، والخير منها كلها أن تكون قد خرجت من صلبك أعضاء تركع وتسجد. قتلت رجولتك، ووأدت فيها النسل، ولبثت طوال عمرك ولداً كبيراً لم تبلغ مرتبة الأب! فلئن أقمت الشريعة، لقد عطلت الحقيقة، ولئن. . . . . .
قال أبو خالد: ووقعت غنة النون الثانية في مسمعي من هول ما خفت مما بعدها كالنفخ في الصور؛ فطار نومي وقمت فزعا مشتت اللب، كمن فتح عينيه بعد غشيته فرأى نفسه في كفن قبر سد عليه. . .!
وما كدت أعي وأنظر حولي وقد برق الصبح في الدار حتى رأيت أبا ربيعة يتقلب كأنما دحرجته يد، ثم نهض مستطار القلب من فزعه وقال: أهلكتني يا أبا خالد، أهلكتني والله.
قلت ما بالك يرحمك الله!
قال. إني نمت على تلك النية التي عرفت: أن أجمع قلبي للعبادة، وأخلص من المرأة والولد، ومن المعاناة لهما في مرمة المعاش والتلفيق بين رغيف ورغيف، وأن أعفي نفسي من لأوائهم وضرائهم وبلائهم لأفرغ إلى الله وأقبل عليه وحده. وسألت الله أن يخير لي في نومي؛ فرأيت كأن السماء قد فتحت، وكأن ر جالا ينزلون ويسيرون في الهواء يتبع بعضهم بعضا، أجنحة وراء أجنحة؛ فكلما نزل واحد نظر إلي وقال لمن وراءه: هذا هو المشئوم!
فيقول الآخر: نعم هو المشئوم!
وينظر هذا الأخر إلي ثم يلتفت لمن وراءه ويقول له: هذا هو المشئوم!
فيقول الآخر: نعم هو المشئوم!
وما زالت ( المشئوم، المشئوم ) حتى مروا؛ لا يقولون غيرها ولا أسمع غيرها، وأنا في ذلك أخاف أن أسألهم، هيبةً من الشؤم، ورجاء أن يكون المشئوم إنساناً ورائي يبصرونه ولا أبصره. ثم مر بي آخرهم، وكان غلاماً. فقلت له: يا هذا، من هو المشئوم الذي تومئون إليه؟
قال: أنت!
فقلت: ولم ذاك؟
قال: كنا نرفع عملك في أعمال المجاهدين في سبيل الله، ثم ماتت امرأتك، وتحزنت على ما فاتك من القيام بحقها فرفعنا عملك درجة أخرى؛ ثم أمرنا الليلة أن نضع عملك مع الخالفين الذين فروا وجبنوا!. . . . . .
إن سموا الرجل بنفسه عن الزوجة والولد طيران إلى الأعلى. . . ولكنه طيران على أجنحة الشياطين!
طيران الرجل إلى فوهة البركان الذي في الأعلى. .!
منقول / مجلة الرسالة . العدد 69
الكاتب : أ. مصطفى صادق الرافعي