اقبل الحديقة . . وطلقها

 

جاء عند البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، ثابت بن قيس ، ما أعتب عليه في خلق ولا دين ، ولكني أكره الكفر في الإسلام !
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتردين عليه حديقته " ؟ قالت : نعم .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقبل الحديقة وطلقها تطليقة " . وفي رواية جاء لفظ : ( إني لا أعتب على ثابت في دين ولا خلق ، ولكني لا أطيقه ) !!

 هذا النصّ من النصوص اللطيفة العجيبة في السنة النبويّة  ، إذا يحكي قصة ( اجتماعيّة ) حصلت أحداثها على مأى ومسمع من النبي صلى الله عليه وسلم . .  ومن الأمور التي تستوقف القارئ عند هذا النصّ  تساؤل - ربما يتبادر لذهن كل قارئ وقارئة -    :

لماذا أغلب الأزواج والزوجات عندما يشتكون من عدم حبهم لشريك حياتهم وعدم تقبلهم له نوصيهم بالصبر والبحث عن حلول أخرى غير الطلاق .. بينما لما شكت هذه الزوجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها لم يوصها بالصبر عليه إنما تجاوب مع طلبها . . ؟!

وقد تأملت ذلك فوجدت أن الجواب عن هذا من خلال مقدمتين :

المقدمة الأولى : مقدمة شرعية .

الأصل في رابطة الزوجية : التشديد في عدم الاستعجال بحلّها وفكّ رباطها .

وذلك يظهر من خلال :

1 - أن الله جعل هذه الرابطة ( آية من آياته ) الدالة على وحدانيّتـه والوهيّتـه .
فقال جل في علاه  : " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا " .
وعلاقة بين طرفين هي في نظر الناس أنه حدث اجتماعي  اعتيادي .. لكن الله يجعله - اي الزواج -  آية من الآيات الدالة على وحدانيّته تعالى وألوهية  ، فذلك يعني أن هذه العلاقة لا يمكن أن يكون حلّ رباطها من أسهل ما يكون  ، بل يلزم من ذلك  تعظيم هذه الشعيرة والمحافظة عليها .

2 - أن الله وصف هذا العقد بـ ( الميثاق الغليظ ) .
فقال تعالى : " وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً" ..  ومن تأمّل القرآن من أوله إلى آخره والسنة النبويّة كذلك لم يكد -  ولا يكاد - يجد عقداً من عقود المعاملات والعلاقات بين الناس يصفه الله تعالى بمثل هذاالوصف ؛
 وذلك يدلّ دلالة واضحة أن الله تعالى يريد من هذا العقد أن يبقى ميثاقاً غليظاً لا ينقطع عند أي سبب !!

3 - أن الله تعالى حذّر في غير ما آية من القرآن من قطع ما أمر الله به أن يوصل .
وجعل من صفة أهل النار أنهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل وتوعّدهم باللعنة وسوء الدار فقال : " وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ "
وعلى هذا فالتساهل في قطع هذه العلاقة - من الرجل أو المرأة -  التي أمر الله بها أن توصل  يجعلهما في حرج عند هذا الوعيد الشديد " أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ  " .
 اللعنة .. التي معناها الطرد والإبعاد . .
 وسوء الدار - في الدنيا والآخرة - في الدنيا بحياة الضنك والضيق وعدم التوفيق . وفي الآخرة بنار جهنّم - إلاّ أن يرحمه الله - .

 وفي الواقع المشاهد . .  نقرأ ونسمع ونعرف عن بعض من حولنا : أن زوجة طلبت الطلاق بغير ما بأس .. وطلّقها زوجها فعاشت من بعده الفراغ والضياع والشتات حتى الانحراف  .. وزوج  طلّق زوجته  بغياً وعدواناً فحرمه الله التوفيق في الدنيا فلا هو موفق في رزقه ولا في علاقته مع الناس ، ولا يكاد يجد من يزوّجه مولّيته ..
 ومن تأمل الواقع .. وقف على  مثل هذا وأكثر ..


4 - أن الله تعالى شرع من الآداب والخطوات التأديبية التي ينبغي أن تؤخذ بالاعتبار قبل أن يقع الطلاق .
- الوعظ .
- الهجر .
- الضرب .
- اتخاذ الحكمين .

5 - و بعد اتخاذ كل هذه التدابير ، والحال أنه لم يزل في القلب ( بقيّة كره وبغض )
فإن الله تعالى ندب إلى العشرة بالمعروف حتى مع وجود الكهر ، فقال : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً "
و في موطن آخر من نفس السورة ندب إلى الصلح وانه خير فقال : " وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً " .
فدلّ هذا على عناية الشريعة بأن تبقى هذه الرابطة ولا تنحلّ .

6 - حتى إن لم يكن من حلّ إلاّ الطلاق فإن الشريعة ندبت إلى :
أن الإنسان إذا أراد أن يطلق فليطلّق :
- تطليقة واحدة ( لا يجمع الطلقات الثلاث في مجلس واحد ) .
- وأن يطلق في طهر لم يجامعها فيه .
- فإن طلقها فلا يجوز له أن يُخرجها من بيتها أو أن تخرج هي من بيته ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ) .

7 - وفي الطرف الآخر من العلاقة الزوجيّة ( الزوجة ) فقد ورد التحذير الشديد من طلب المرأة الطلاق
لغير ما سبب شرعي ، لحديث : " أيما امرأة سألت زوجها طلاقا في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة " .
وفي هذا تحذير وتنفير من حلّ هذه الرابطة لأي سبب !!

8 - االتسهل في الطلاق من أعظم الأمور التي تُفرح الشيطان وحزبه .

فقد جاء في الحديث : " إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا ويجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله فيدنيه منه ويقول نعم أنت أنت . ‌ "

المقدمة الثانية : مقدمة اجتماعية :

1 - الناس اليوم ينظرون للمطلقة نظراً لم يكن موجودا في ذلك الزمن .

فالمطلقة في عهد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وفي عهد التابعين وردحاً من الزمان بعدهم لم يكن ينظر إليها الناس نظر التعييب والتثريب والنقص ، بل كانوا يحترمونها ويقدرون لها أنوثتها وقرارها .. فكان موقف المجتمع من المطلقة لا يشكّل عليها ضغطاً نفسيّاً ، يزيد من مصيبتها ويدفعها إلى ما لا تحمد عقباه .

2 - كان المجتمع في ذلك الزّمن يعظمون أمر الطلاق .
ولذلك لم يكن أحدهم ليطلّق ، أو إحداهنّ تطلب الطلاق إلاّ بعد أن لا يكون حلّ إلاّ هو . وهذا هو الظن بذلك الرعيل الذي يعظّم شعائر الله . بعكس ما يحدث في مجتمعنا اليوم من تساهل في هذا الأمر وعدم تعظيمه التعظيم الشرعي .

3 - في ذلك الزمن لم يكن الطلاق يشكّل منعطفاً خطيراً في تكثير عدد العوانس في المجتمع .
بل كان المجتمع مترابطاً في عمومه ، فالمطلقة من السهل عليها أن تجد من يسترها ويحتويها احتواء لا يتسم بالنزوة والغريزة بل احتواءً فطريّاً شرعيّاً محاطاً بأدب الإسلام في المحافظة على صلاح المجتمع من جهة صيانة أفراده وسدّ باب ذريعة الفساد بمثل هذه الوسائل . وهذا الأمر يكاد في زمننا يشكّل منعطفاً خطيراً له أثره حتى في انحراف سلوكيات المجتمع !!


إذا عُلم هذا وفهم ظهرت لنا النتائج التالية :

1 - أن من أخص مقاصد الشريعة في الزواج هو :
أن تبقى هذه العلاقة وتدوم ولا تقطع أو تحلّ عند أي سبب إلاّ أن يكون السّبب سبباً  لا يمكن معه أن تدوم الحياة بين الطرفين ...

2 - أن الأصل هو الإرشاد إلى الصبر وعدم إيقاع الطلاق :
-
لأن الله قال : " وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً "  فالله تعالى  أرشد إلى الصلح ابتداءً عند الخوف من الشقاق ، ولم يرشد إلى حلّ العقد ، وقد أشار في موضع آخر إلى أن .. " الصلح خير "

- الأمر بالعشرة المعروف حتى مع وجود الكره فال : " وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً " .

- حتى في قصّة امرأة ثابت نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بطلاقها طلاقاً بائناً إنما قال له "  وطلقها تطليقة واحدة "  فهو يعطيه  ويعطيها الحل الذي يمنحهما فرصة للتفكير ، ومجالاً للرجعة إلى بعضهما . فقد يكون الزوج أو الزوجة في حال طلب الطلاق في حالة نفسيّة  تجعله قريب النّظرة ، متوتّر بردّة الفعل . وهذا الإرشاد هو نوع من ( التصبير ) .

فتبيّن : أن الأصل هو معالجة الأمر بالصلح والتراضي والصبر والمصابرة ومحاولةالعشرة بالمعروف حتى مع بقاء الكره والبغض .

3 - نستفيد من قصّة ( ثابت بن قيس ) رضي الله عنه مع زوجته :  أن هناك بعض الحالات الخاصّة التي لا تصلح إلا بالفراق بين الزوجين .
فإن الله تعالى لما شرع الزواج شرع الطلاق كمخرج شرعي عندما لا يتحقق من بقاء هذه الرابطة المقاصد السامية من الزواج ، بل يتحقق مع البقاء فساد عظيم ..
وهو الأمر الذي وصفته زوجة ثابت بن قيس في شكواها ..
فإن زوجة ثابت قد وصفت للنبي صلى الله عليه وسلم حالاً عُلم منه أن بقاء العلاقة بينهما يؤدي إلى مفاسد اعظم من مصالح بقائهما في ذمة واحدة .
فإنه جاء في بعض الروايات أنها وصفته بأنه دميم الخلقة قبيح الوجه ، وكان يضربها حتى كسر يدها !!
فعُلم والحال هذه أن بقاءها معه ربما أدّى إلى مفاسد عظيمة كالكفر بالله !!
فإنها قالت : " إني أكره الكفر بعد الإسلام " وقد تأوّل العلماء ذلك بتأويلات كلها واردة ، فهي تكره أن يقع منها ما يجرّها إلى الكفر حتى ينفسخ العقد بينهما ، وتكره أن تكون ممن يكفرن العشير ، وتكره أن تقع في أسباب الكفر من سوء العشرة والنفاق ونحو ذلك .
وقد علم صلى الله عليه وسلم من حالها أنها تكره زوجها كرهاً لا يمكن أن تدوم معه العلاقة .
ومع هذا : نجد في بعض السنّة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوصي بعض الزوجات بالصبر على أزواجهنّ ومراجعتهم حتى مع وجود الكره والبغض ، فقد جاء عند البخاري أنه صلى الله عليه وسلم لمّأ رأى من حال مغيث زوج بريرة ، أنه كان يمشي في الأسواق ودموعه على خدّه تسيل ويتعجّب منحبّه لبريرة وبغض بريرة له ، فقال لها صلى الله عليه وسلم : " لو راجعته " !!
قالت يارسول الله : تأمرني ؟!
قال : " إنما أنا أشفع " .
قالت : لا حاجة لي فيه .
الأمر الذي يؤكّد أن الحرص والسعي على لمّ الشمل - حتى مع وجود الكره والبغض - أمرٌ مندوب إليه .. إلاّ أن هناك حالات خاصّة كما ذكرت لا تحتمل إلاّ أن لايكون بين الاثنين بقاء للعلاقة وذلك هو الصلح في حقهما .


أسأل الله العظيم أن يسعد كل زوج بزوجته وأن يديم بينهما حياة الودّ والرحمة ، وأن يقرّ أعينهما بما يرضيهما في طاعته .

الكاتب : أ. منير بن فرحان الصالح
 29-12-2010  |  7494 مشاهدة

مواضيع اخرى ضمن  مقالات ودراسات


 

دورات واعي الأسرية


 
 

إستطلاع الرأي المخصص لهذا اليوم!


هل ترى أهمية لحضور دورات عن العلاقة الخاصة بين الزوجين :

    
    
    
    
 

ناصح بلغة الأرقام


4008

الإستشارات

876

المقالات

35

المكتبة المرئية

24

المكتبة الصوتية

78

مكتبة الكتب

13

مكتبة الدورات

444

معرض الصور

84

الأخبار

 

إنضم إلى ناصح على شبكات التواصل الإجتماعي


 

حمل تطبيق ناصح على الهواتف الذكية


 

إنضم إلى قائمة ناصح البريدية


ليصلك جديدنا من فضلك أكتب بريدك الإلكتروني