التربية الأسرية العملية من خلال سورة يوسف 2 / 2

 

 

7 -  ثم نرى أن يعقوب وقع فيما حذر منه ابنه الصغير يوسف بألا يحدث إخوته برؤياه فيكيدوا له كيدًا ، وذلك ليعلم المؤمن بأن عليه الأخذ بالحيطة ، ولكن قد يأتيه البلاء مما خاف منه ، وخطط لعدم الوقوع منه ، ليلجأ المؤمن في كل أحواله إلى الله ، وأن يسلم لقضائه .
 
8 - وبعد تمام مؤامرة الإخوة بإلقاء أخيهم الصغير في الجب للتخلص منه ، جاء النصر المبين من الله تعالى للصغير وهو في الجب ، انزل الله عليه الطمأنينة بالعودة إلى إخوته ، ومباشرة الوحي بالنزول على الصغير بأنه في رعاية الله تعالى ، وأن الله تعالى فوق كيد المعتدين حتى لو كانوا إخوته ، الذين نسوا الله في تلك اللحظات ، ونسوا يوم كشف حقيقة خداعهم لأبيهم وأخيهم : ( فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون )[يوسف /15] .
 
9 -  ثم يبين القرآن الحجج الباطلة عبر دموع التماسيح الكاذبة ، والأدلة المادية المزيفة ، وأمام كل الحجج التي ظاهرها الحق وباطنها الباطل ، نرى موقف النبي يعقوب ، وهو الدرس الأول المستفاد لكل مؤمن ، فيأتي جوابه بالتوكل على الله والاستعانة به على كل تلك الحجج الباطلة : ( وجاءوا آباءهم عشاء يبكون * قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين * وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرًا فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون )[يوسف/16 ، 17 ، 18] .
 
 
 
    ونرى أن الحجج الباطلة ابتدأت مما حذر منه الأب أبناءه ، وذلك حتى يصدقهم أبوهم ، لذلك أحسوا أن حجتهم العقلية ضعيفة : ( وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ) فأتبعوه بالدليل المادي القميص المضرج بدماء الكذب ، ونلحظ أن الأب أحس بمكر أولاده  ، وإن الأمر كان خطة مبيتة من أولاده : ( قال بل سولت لكم أنفسكم أمرًا ) ثم يبين أن الأمر يحتاج للصبر الجميل لمواجهة حدث قتل ابنه ، ويظهر أن الله قادر على كشف الحقيقة
 
     وهنا يعلمنا القرآن كيفية مواجهة الأحداث الأسرية والعامة برفع شعار : ( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) وبذلك تزداد نفس المؤمن قوةً على مواجهة الكرب والحزن والتآمر على العباد ، وضرورة ابتعاد الآباء عن إظهار عنتريات فارغة ، أو تسويفات كلامية ، أو خطب رنانة ، أو تسويد مقالات مهترئة ، فيكشف القرآن منهجاً جديدًا ألا وهو تفويض كشف الحقيقة لله تعالى ، والصبر الجميل بلا ضجر ولا ملل ولا سآمة ، أو إظهار الاستياء من قدر الله تعالى ، لذا يأتي شعار ( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) ذكرًا يردده المؤمن صغيرًا وكبيرًا ، في حياته اليومية في كل آن ، كلما عرض له عارض أو طارىء .
 
 
 
10 - ثم ترينا الآيات رعاية الله تعالى للصغير المرمي في الجب بيد إخوته ، لا بيد أعدائه ، وترينا الآيات دقائق تفصيلية من قدرة ورحمة الله تعالى ، وتمكينه لعبده ، وأنه في الرعاية الإلهية في كل آن ، وهو هدف إيماني من إيراد القصص القرآني ، كيف يربي القرآن المؤمن بالقصة الواقعية العملية : ( وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بُشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون * وشروه بثمنٍ بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين ، وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا * وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون * ولما بلغ أشده آتيناه حكمًا وعلمًا ، وكذلك نجزي المحسنين )[يوسف/19 ـ 20] .
 
    إنه درس إيماني برعاية الله لكل خطوة ، وأن أكثر الناس غافلون عن قدرة وعلم ومشيئة الله تعالى ، فهم أرادوا أمرًا ، والله تعالى أراد غيره ، ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعملون ) .
 
11- ثم يذكر القرآن فتنة الشاب المراهق الجميل ، في أعنف مشهد يحصل لشاب وسيم ، أُوتي شطر الحسن ، خلوق بريء ، أمين طاهر عفيف ، فينجيه الله من ذلك المكر ، بأعجوبة دقيقة خفيت على كثير من الناس ، وذلك بفضل لجوئه إلى الله واستنجاده به بقوله : (معاذ الله ) :  ( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون * ولقد همَّت به وهمَّ بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء  إنه من عبادنا المخلصين )[يوسف/23 ، 24] ، وأتت كلمة ( هيت ) ومخارج حروفها بدءًا من الهاء ومخرجها من الجوف مرورًا بوسط الحلق بالياء ثم الثنايا بالتاء ، ليدل على مدى تمكن حبها منه . ولكن المؤمن لا يخون الله ولا رسوله ولا من ائتمنه على عرضه ، وآواه في بيته . ولقد هم بدفعها عنه ، فرأى برهان ربه : لو أنه دفعها فسوف يستخدم دفعه لها حتى تبتعد عنه من جهة صدرها سيكون دليلاً ضده بأنه هو البادىء ، فلجأ إلى الهروب ، مما أدى لأنت تلقي القبض عليه من قميصه من الخلف ، فيكون ذلك دليل تبرئته من التهمة .
 
( واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاءُ من أراد بأهلك سوءًا إلا أن يُسجن أو عذاب أليم * قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قُد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قُد من دبر فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قُد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم * يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين )[يوسف/25 ـ 29] ، ثم ينكشف الأمر في المجتمع ، الذي يتتبع عورات الناس وبخاصة الأسر الحاكمة ، الأمر الذي يدعو كل أسرة إلى الاهتمام بتربية نفسها كبارًا وصغارًا ، وأن وقع الفضيحة ألم وعذاب كبير ، فأعدت امرأة العزيز خطة في استدراج تلك النسوة اللاتي تكلمن عنها ، وكن من طبقتها : ( وقال نسوةٌ في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبًا إنا لنراها في ضلال مبين * فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئاً وآتت كل واحدة منهن سكينًا ، وقالت أخرج عليهنَّ فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهنَّ وقلن حاش لله ماهذا بشرًا إن هذا إلا ملكٌ كريم * قالت فذلكن الذي لُمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونًا من الصاغرين )[يوسف/30 ـ 32] .
 
 وبعد أن سمع الفتى ذلك التهديد والوعيد ، إذ كان بامرأة العزيز وحدها ؛ فإذا بالمؤامرة تزداد من تلك النساء جميعًا ، فلا يزداد الشاب المؤمن إلا ثباتًا ، ويلجأ إلى الله في أن يعصمه الله من مكرهن ، وطلب من الله أخف الضررين ، وتأتي استجابة الدعاء مباشرة لعبده المضطر يوسف ـ عليه السلام ـ ، بحرف الفاء الذي يفيد السرعة والمباشرة فورًا : ( فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن )[يوسف/34] : ( قال ربِ السجن أحبُ إليّ مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين * فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم )[يوسف/33 ، 34] ، ثم نرى أن مجلس العزيز بدأ يفكر في الأمر لكي يتدارك ألم الفضيحة بين الناس ، فوجد بعد المداولة : ( ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين )[يوسف/35] ، فترينا الآيات أن علاج شغف الحب يكون بالإبعاد بين المتحابين ؛ واليأس من حصول الزواج بينهما
 
12 - ثم تبين الآيات التربية السجينة للداعية ، وتبين الدعوة إلى الله وعبادته التي خلق الإنسان من أجلها فهي معه أينما ذهب وأينما حل وارتحل ، سفرًا وحضرًا ، سجنًا وحرية ، صحة ومرضًا ، غنى وفقرًا ، وفي كل أحوال المؤمن الزمانية والمكانية يستمر بالدعوة إلى الله ، وما الدعوة إلى الله تعالى إلا دعوة المجتمع والأسر والأفراد ، إلى التربية الصحيحة بعبادة الله وحده ، والاستقامة على منهج الله تعالى وتشريعه ، فيتنظف المجتمع من أدران المخدرات ، والايدز  ، ويتخلص المجتمع من حقد المرابين مصاصي دماء الشعوب ، وآكلي ثمرات جهودهم ، ويتطهر المجتمع والأسرة من أكل أموال بعضهم بعضًا بالباطل .
 
هكذا يعلمنا القرآن عبر قصة يوسف موقفه في السجن : ( ودخل معه السجن فتيان قال احدهما إني أراني أعصر خمرًا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزًا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين * قال لا يأتيكما طعامٌ ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قومٍ لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون * واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون * يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار * ما تعبدون من دونه إلا أسماءً سميتموها أنت وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، ذلك الدين القيم ولكن أكثر لا يعلمون * يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرًا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه ، قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان )[يوسف/36 ـ 41] .
 
 وهكذا عرض يوسف السجين لزملائه في السجن دليل الوحدانية لله تعالى ، وسبق ذلك إظهار نبوءته لهم بنوعية الطعام الذي يأتيهما ، كما قام على خدمتهم بتفسير منامهما وحلمهما ، ويعطي لهما رأيه بكل يقين ، وأن تفسير المنام هو فتوى ، لا يجوز دفعها إلا من المفتي العالم بها .
 
وبذلك يتعلم الولد أن الثبات على الإيمان قد يدفع ثمنه من فترات حياته ، فيقضيها في السجن في سبيل الله تعالى ، فلا يتذمر لقضاء الله تعالى ، ويستمر في دعوته لله رب العالمين ، ويرى في سجن سيدنا يوسف وسيدنا محمد وأصحابه المؤمنين الصغار والكبار في شعب مكة ثلاث سنين قدوة حسنة .
 
13 - ثم تأتي قصة رؤيا الملك ، وتبدأ قصة يوسف بالعد التنازلي من البلاء ، ونرى من بداية السورة ووسطها ونهايتها التركيز على علم تفسير الرؤيا ، وأنه وهبي من الله لا كسبي من الإنسان ، وذلك فضل من الله تعالى يعطيه من شاء من عباده .
 
    ففي أولها : ( وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث  ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمَّها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم )[يوسف/6] .
 
    وفي وسطها : ( ولنعلمه من تأويل الأحاديث )[يوسف/21] .
 
    وفي نهايتها : ( رب قد آتيتني من الملك وعلّمتني من تأويل الأحاديث )[يوسف/101] فلنستعرض رؤيا الملك ، وكيف انكشف خطأ امرأة العزيز في الوقت الذي أراده الله أن يظهر : ( وقال الملك إني أرى سبع بقراتٍ سمانٍ يأكلهنَّ سبع عجاف وسبع سنبلاتٍ خضرٍ وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون * قالوا أضغاث أحلامٍ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين * وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمةٍ أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون * يوسف أيها الصِّدِّيقُ أفتنا في سبع بقراتٍ سمانٍ يأكلهنَّ سبعٌ عجافٌ وسبعَ سنبلاتٍ خضرٍ وأخرَ يابساتٍ لَعلِّي أرجع إلى الناس لعلَّهم يعلمون * قال تزرعون سبع سنين دأبـًا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً ممَّا تأكلون * ثم يأتي من بعد ذلك سبعٌ شدادٌ يأكلنَ ما قدمتم لهنَّ إلاَّ قليلاً ممَّا تحصنون * ثم يأتي من بعد ذلك عامٌ فيه يُغَاثُ الناس وفيه يعصرون * وقال الملك ائتوني به فلمَّا جاءه الرسولُ قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بالُ النِّسوةِ اللآتي قطَّعن أيديهنَّ إن ربي بكيدهنَّ عليم * قال ما خطبكنَّ إذ راودتنَّ يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امراة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين * ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين * وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم )[يوسف/43 ـ 53] .
 
    وهكذا يفسر يوسف رؤيا الملك تفسيرًا اقتصاديـًا ، ويعلِّمنا أن نعمة الله قد تتقدم البلاء أو العجز الاقتصادي ، فعلى الدولة والمجتمع والأسرة والفرد أن يتعلم أن ما يرده من نعمة مالية أو غيرها قد تكون لتشمل ما يتأخر من أحداث ، فالإدارة الاقتصادية للدولة والمجتمع والأسرة والفرد مطلوب ، حتى لا يقع العجز الاقتصادي الذي لا يبقي ولا يذر ، ومن هنا وجب على الأسرة أن تربي أفرادها على الإدارة الاقتصادية ، مصداقـًا لقول عمر  " اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم " .
 
كما ندرك أهمية تعبير الرؤيا للصغير والكبير ، والحاكم والمحكوم ، وكما ورد أن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة ، وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يلتفت إلى أصحابه بعد صلاة فجر كل يوم فيسأله أصحابه عن رؤياهم ليفسرها لهم ، حتى أفرد البخاري وغيره باب تعبير الرؤيا ، مما يدل على أهمية الاعتناء بهذا العلم .
 
 * منقول :  الشبكة الإسلاميّة .
 
http://www.naseh.net/index.php?page=YXJ0aWNsZQ==&op=ZGlzcGxheV9hcnRpY2xlX2RldGFpbHNfdQ==&article_id=ODQ3&lan=YXI=
 

الكاتب : محمد نور سويد
 18-10-2015  |  4924 مشاهدة

مواضيع اخرى ضمن  التربية الأسرية


 

دورات واعي الأسرية


 
 

إستطلاع الرأي المخصص لهذا اليوم!


هل ترى أهمية لحضور دورات عن العلاقة الخاصة بين الزوجين :

    
    
    
    
 

ناصح بلغة الأرقام


4008

الإستشارات

876

المقالات

35

المكتبة المرئية

24

المكتبة الصوتية

78

مكتبة الكتب

13

مكتبة الدورات

444

معرض الصور

84

الأخبار

 

إنضم إلى ناصح على شبكات التواصل الإجتماعي


 

حمل تطبيق ناصح على الهواتف الذكية


 

إنضم إلى قائمة ناصح البريدية


ليصلك جديدنا من فضلك أكتب بريدك الإلكتروني