لا تنغصوا فرحة العيد

 

لا تنغصوا فرحة العيد
 
 
 
للعيد فرحةٌ وأي فرحة! إنها الفرحةُ بهذا الدين، وإكمال عِدة رمضان: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس: 58]([1])، إلا أن هذه الفرحة يأتي ما ينغّصها في بعض البيوتات والعلاقات الاجتماعية، وعلى رأس هذه المنغصّات:
·  القطيعة التي توجد بين بعض الأقارب ـ والد وولد، أو أخ وأخيه ـ نجح الشيطان في صرْمِ حبالها، وقطعِ وصالها، مع أن عامة الأسباب - إن لم تكن كلها – دنيوية بحتة، أو أشياء يسيرة يمكن تجاوزها وحلُّها إذا وُجدت رغبةٌ صادقة من الطرفين: ﴿إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾[النساء: 35].
والملاحَظ أن مما يطيل أمَدَ هذه القطيعة: إصرارُ أحدِ الطرفين أو كلاهما على اعتذار الطرف الآخر لأن الخطأ منه، أو أن الحق له! فيقابله الطرفُ اللآخر بمثل هذا الشعور، فمتى يصطلح هذان؟ ومتى يجتمع المتقاطعون والمتهاجرون إذا لم يجتمعوا في العيد؟ أيَسُرّهم أن يُحرَموا من ذلك الفضل الذي حدّث به النبيُّ  صلى الله عليه وسلم في قوله: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين، ويوم الخميس؛ فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنْظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظِروا هذين حتى يصطلحا"([2])؟!

ما أسعد ذلك الساعي في رأب الصدع، وترميم العلاقة؛ بالعز في الدنيا قبل الآخرة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزّاً"([3])، وما أشد ما ينتظرُ الممتنع من الإصلاح من وعيد تقشعر له الأبدان: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾[محمد: 22، 23].
·  ومما ينغّص فرحةَ العيد ـ وله صلةٌ بما سبق ـ: ما يقع من بعض الناس - خصوصا ممن له حقٌّ لسنِّه أو عِلمه أو مكانته الاجتماعية- من كثرةِ العتاب على الآخرين، سواء ممن لم يتصل أو يَزُر، أو يهنّئ أو يُعايد!
ومع الاحتفاظ بحق كل إنسان، وأنه ينبغي إنزاله منزلته؛ فإن من الأصلح للقلوب أن تتسع لالتماس المعاذير للناس، فالصوارف والعوائق في عصرنا كثرت وزادت، ولربما عَتَب أحدُنا على شخص واستبطأ زيارَتَه أو اتصاله، وهذا المعاتَب مريض، أو نزلت به نازلةٌ اجتماعية لا يُحب أن يعلم به أحدٌ، "ومن لم يعاشر الناس على لزوم الإغضاء عما يأتون من المكروه، وترك التوقّع لما يأتون من المحبوب؛ كان إلى تكدير عيشه أقرب منه إلى صفائه، وإلى أن يدفعه الوقتُ إلى العداوة والبغضاء أقرب منه إلى أن ينال منهم الوداد وترك الشحناء"([4])، وصدق مَن قال: "ومَن أحوجك إلى العتب؛ فقد وطّن نفسَه على الهجرة".
 
·  وثالث هذه المنغصّات في العيد ـ وهي أحدُ أسباب القطيعة في السنوات الأخيرة في مجتمعنا ـ هو ما يحصل مِن توسعِ عددٍ من النساء في اللباس، بحيث تتجاوز ما يمليه الحياء، وتوجبه المروءةُ مِن مراعاة اللبس المحتشم، ولربما استحضرتْ بعضُ النساء بعضَ الأقوال الفقهية التي تتحدث عن عورة المرأة أمام المرأة، وليس المقامُ هنا مقامَ حديثٍ عن البحث الفقهي؛ بل المراد أن المرأة العاقلة تراعي الجوانبَ التربوية، وآثارَ هذا التوسع في مثل هذه الألبسة، وخطرَها على الأجيال الناشئة، فمِن المعلوم أن هذا التوسع لم يأت في يوم وليلة، بل كانت بدايتُه بتوسّعٍ قليل حتى وصل الحالُ إلى مآسٍ يندى لها جبينُ الحياء؛ مِنْ كشفٍ لمواضع من الجسد يستحي الإنسانُ من ذكرها! وهكذا بدايةُ تفشّي السفور في بعض بلاد الإسلام كما لا يخفى.
ولنا أن نتساءل: ماذا يُتوقع من طفلةٍ تنشأ في أجواء كهذه؟ وكيف سيكون لباسها بعد سنوات حين تبلغ سن النساء البالغات؟ ألا يكفي تكسر هيبة الحشمة في نفسها؟ وانهيار حاجب الحياء من اللبس العاري؟
 
وهذا النوع من الألبسة مع مخالفته لظاهر النصوص التي تأمر بألا تكشف المرأةُ إلا ما جرت العادةُ بكشفه عند محارمها من الرجال؛ إلا أنه أيضاً ـ وهذا من شؤمه ـ سبَبٌ في قطيعة بعض الأُسر لاجتماعات أقاربهم! بسبب إصرار بعض الأخوات ـ هداهن الله ـ على هذا النوع من الألبسة، وكأن الجمال لا يتم إلا بهذا التعري! فتحّول العيدُ إلى زمنِ شحنٍ للنفوس على بعض، بدلاً من صفائها واجتماعها!
 
وإني أوجّه دعوةً لكل رجلٍ ولّاه اللهُ أمرَ زوجةٍ أو بنتٍ أن ينتبه لهذا الأمر: "فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"([5])، كما أهيب بأختي المسلمة ـ أُماً كانت أم زوجة ـ أن تتقي الله تعالى فيما تلبس، وأن تعلم أن الله سائلها عما تحتها من البنات، "والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها"، ولتتذكر أن ضغط الواقع ـ الذي تحتج به بعضُهن ـ يَذهب من قلبها إذا تذكرت أمثال هذه الآيات التي تصف هذه اللحظات المهيبة: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾[البقرة: 281]، ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾[مريم: 93 - 95]، ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُون﴾[النحل: 111].
 
وبالجملة.. إذا لم يكن العيدُ فرصة للتصافي، وإظهار مشاعر البهجة والفرح، وزيادة عُرى المودة والمحبة؛ كان مجرّد ورقة على التقويم مكتوب فيها: (1 شوال)! فرحم الله مَن كان سبباً في شيوع الرحمة، وجمع الشمل، وإرضاء الرحمن، وإغاظة الشيطان، في هذا اليوم العظيم، الذي جعله اللهُ يومَ فرحٍ وسرور، ويومَ شكر على تمام النعمة، وإكمال العِدّة.
 
 ==========================
 
([1]) ينظر مقالٌ سابق بعنوان: "العيد بين عبوديتين":
http://almuqbil.com/web/?action=articles_inner&show_id=1323.
([2]) مسلم ح(2565).
([3])  مسلم ح(2588).
([4]) روضة العقلاء (ص: 72).
([5]) البخاري ح(893)، مسلم ح(1829).
 
 منقول 

الكاتب : أ. د . عمر المقبل
 13-07-2015  |  5129 مشاهدة

مواضيع اخرى ضمن  مقالات ودراسات


 

دورات واعي الأسرية


 
 

إستطلاع الرأي المخصص لهذا اليوم!


هل ترى أهمية لحضور دورات عن العلاقة الخاصة بين الزوجين :

    
    
    
    
 

ناصح بلغة الأرقام


4008

الإستشارات

876

المقالات

35

المكتبة المرئية

24

المكتبة الصوتية

78

مكتبة الكتب

13

مكتبة الدورات

444

معرض الصور

84

الأخبار

 

إنضم إلى ناصح على شبكات التواصل الإجتماعي


 

حمل تطبيق ناصح على الهواتف الذكية


 

إنضم إلى قائمة ناصح البريدية


ليصلك جديدنا من فضلك أكتب بريدك الإلكتروني