العاطفة والحب في الإسلام

 

إهمال العاطفة: إن الدعوة إلى إهمال العاطفة دعوة بحاجة إلى

مراجعة وإلى إعادة النظر لأمور منها:

أولاً:

 أن العاطفة خلقها الله في الإنسان أصلاً، فقد خلق الله الإنسان يحمل مشاعر وعواطف من الحب

والكره، والقبول والرفض والحماس .فالدعوة إلى إلغائها دعوة

إلى تغيير خلق الله، والدعوة إلى إلغائها أنها خُلقت عبثاً، وحاشى

لله عز وجل أن يكون في خلقه عبث، فهو سبحانه ما ركَّبَ هذه العاطفة

في نفس الإنسان إلا لحكمة، ولمصلحة لابد أن تتحقق من ورائها .

 

ثانياً :

 يتفق العقلاء من الناس على وصف فاقد العاطفة بأنه رجل

شاذ؛ فالرجل الذي لا تتحرك مشاعره، فلا يرقُّ قلبه لمشهد يثير

الرقة والعطف، ولا يملك مشاعر الحب تجاه الآخرين أو مشاعر الرفض

تجاه من يُرفَض، الرجل الذي لا يمكن أن تتوقَّد في قلبه حماسة أيًّا

كان الموقف، لاشك أنه رجل شاذ فاقد للإحساس والعواطف . بل إن

الناس يرون أن الرجل الذي لا يحس بالجمال، ولايتذوق الجمال في

هذه الدنيا، رجل شاذ، فهو وصف مخالف للفطرة السوية، ولهذا (

حين جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورآه يقبِّل صغيراً،

قال :تقبِّلون صغاركم ؟! قال صلى الله عليه وسلم "أوأملك أن نزع

الله من قلبك الرحمة ؟"). إنه رجل شاذ بعواطفه، إنه رجل كما قال

صلى الله عليه وسلم:"قد نُزعت من قلبه الرحمة" فصار تصرفه وصار

سلوكه، سلوكاً غير مرضيٍّ، وسلوكاً مرفوضاً، يستنكر النبي صلى الله

عليه وسلم على هذا الصحابي رضوان الله عليه، أن لا يملك في قلبه

الرحمة، والرقة والعاطفة تجاه هؤلاء الصبية الصغار، فصار لا

يُقبِّل أحداً منهم . ثالثاً : حين نقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه

وسلم نجد مواقف شتى تدل على هذا المعنى وسواءً سميناها عاطفةً

أو لم نسمها كذلك فلا مشاحنة في الاصطلاح، ولا يجوز أبداً أن نقيم

جدلاً وحرباً حول المصطلحات والألفاظ، سمها ما شئت المهم إنها

تعني الذي نريد، وإن اصطلحنا نحن على تسميتها بالعاطفة فإن

هذا لايعني أن وصف العاطفة لفظ تهمة أصلاً ولفظ جرح، يتردد المرء

من أن يصف به فلاناً من الناس فضلاً أن يصف به محمداً صلى الله عليه

وسلم . وإن اخترت أن تبحث له عن لفظ غير هذا فأنت وما تريد

لكنا نحن نريد المعنى ولسنا نقيم جدلاً حول هذا المصطلح وحول

هذا اللفظ . النبي صلى الله عليه وسلم كان يملك هذا الشعور:

يملك هذا الشعور مع زوجاته، ففي حجة الوداع تأتي زوجه عائشة

رضي الله عنها وقد حاضت ولم يتيسر لها أن تأتي بعمرة قبل الحج

فتأتي النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: يذهب الناس بحج وعمرة

وأذهب بحج؟ ثم تلحُّ عليه صلى الله عليه وسلم، يقول جابر: وكان

رسول الله عليه وسلم إذا هوت أمراً تابعها عليه، ويواعدها صلى الله

عليه وسلم المحصَّب أو الأبطح ثم تذهب مع أخيها فتعتمر فتأتي

إليه صلى الله عليه وسلم فيُوقظ صلى الله عليه وسلم ثم

يقول "أفرغتم؟" فتقول: نعم؛ فيؤذن أصحابه بالرحيل . وفي موقف

آخر أبعد من هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزاة

ففقدت عقداً لها رضي الله عنها وحبس النبي صلى الله عليه وسلم

الناس يبحثون عن هذا العقد، ويأتي أبوبكر الصديق رضي الله عنه

إليها والنبي صلى الله عليه وسلم نائم على حجرها فيقول : ( حبستِ

رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء وليس معهم

ماء ؟! ) قالت: ( فما يمنعني أن أتحرك إلا مقام رسول الله صلى الله

عليه وسلم على فخذي ) حتى آيسوا من هذا العقد فلما أقاموا

البعير وجدوه تحته !!، وتدركهم الصلاة وليسوا على ماء، فتنزل

آية التيمم فيقول أسيد رضي الله عنه: ( ما هذه بأول بركتكم يا

آل أبي بكر ) . إن النبي صلى الله عليه وسلم يحبس الجيش كله،

ويبقيه يبحث عن هذا العقد، والقضية ليست قضية رجل يتعلق

بالدنيا حاش وكلا، إنما هي مراعاة لمشاعر تلك المرأة، فيحبس

النبي صلى الله عليه وسلم الجيش ويحبس الناس، ويأتي أبو بكر

الصديق رضي الله عنه غاضباً إلى عائشة لأنها حبست الناس ويبقيهم

صلى الله عليه وسلم حتى أدركتهم الصلاة وليسوا على ماء وليس معهم

ماء . وتأتي رضي الله عنها تنظر الى أهل الحبشة وهم يلعبون في

المسجد ويقف صلى الله عليه وسلم يسترها وهي جارية لا يمل حتى تمل

اللعب وتنصرف، فينصرف صلى الله عليه وسلم . ونرى أيضاً هذا الخُلق

عنده صلى الله عليه وسلم وتلك الرَّقة مع الأولاد فيأتي إليه الصبيِّ

فيُقبّله صلى الله عليه وسلم فيعترض عليه رجل جالس عنده، فيقول :

( تُقبِّلون الصبيان ؟ إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم )

، فيقول صلى الله عليه وسلم : "أو أملك أن نزع الله من قلبك

الرحمة". وفي الحديث الآخر ـ أيضاً ـ يقول صلى الله عليه وسلم "من

لايَرحَم لا يُرحَم" . ويُؤتى بالنبي صلى الله عليه وسلم وصبيٌّ يحتضر

وروحه تقعقع فيحمله صلى الله عليه وسلم ثم تنزل قطرات من الدمع

من عينيه صلى الله عليه وسلم ويتساءل أصحاب النبي صلى الله عليه

وسلم : يتساءلون كيف لهذا القلب الكبير أن يرق ؟ كيف لهذا

القلب الكبير أن يحمل هذه العاطفة لمثل هذا الصبي فيُقال ما

هذا ؟! فيقول: ( هذه رحمة يجعلها الله في قلوب من يشاء من

عباده ) . ويموت ولده إبراهيم ويبكي صلى الله عليه وسلم ويقول:

( إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا

وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) . في حين يأتي أحد

المتصوفة ويرى أنه سيبلغ هدياً أكمل من هدي النبي صلي الله عليه

وسلم وهو يشعر أنه قد أُمر بالصبر على فقدان أولاده والرضا لهم،

فحين يموت ولده يقوم هذا الرجل يرقص على قبره !!، فرحاً بهذه

المصيبة، ويظن أنه قد بلغ من الرضا بقضاء الله عز وجل وقدره

منزلة عالية . بينما هو قد فقد تلك المنزلة العالية التي سما

إليها النبي صلى الله عليه وسلم حين يجمع بين الصبر والرضى

بقضاء الله عز وجل ويجمع بين الرحمة والرقة والعاطفة، التي لا

يفتقدها إلا إنسان شاذ . ويأتي الحسن والنبي صلي الله عليه وسلم

يصلي ساجداً، فيصعد على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى

النسائي من حديث عبد الله بن شداد رضي الله عنه فيطيل النبي صلى

الله عليه وسلم السجود، حتى يقوم هذا الغلام فيسأله أصحابه

فيقول:"إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أقوم حتى يقضي حاجته" .

ويدخل وهو يخطب صلى الله عليه وسلم فينزل صلى الله عليه وسلم من

على منبره ثم يحمله ويعود إلى خطبته ويقول :"إن ابني هذا سيِّد

وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين". وتتجاوز رحمة

النبي صلى الله عليه وسلم وعطفه بني الإنسان إلى البهيمة

والحيوان، فيروي عبدالله بن جعفر عنه صلى الله عليه وسلم أن أحب

ما استتر إليه لحاجته هدف أوحائش نخل، فيدخل النبي صلى الله

عليه وسلم حائطاً لرجل من الأنصار فإذا به جمل فلما رأى النبي

صلى الله عليه وسلم حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه

وسلم فمسح دفراه فسكت فقال صلى الله عليه وسلم:"من رب هذا الجمل

؟ لمن هذا الجمل ؟" جاء فتى من الأنصار فقال :لي يارسول

الله ,فقال له :" أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكَّك الله

إياها فإنه شكا إليَّ أنك تجيعه وتدئبه" رواه أبو داوود . وفي

حديث آخر عند أبي داود من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود

رضي الله عنهما عن أبيه قال : " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم

في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حُمَّرة معها فرخان فأخذنا فرخيها

فجاءت الحُمَّرةُفجعلت تفرش فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال :"من فجع هذه بولدها ؟! ردوا ولدها إليها" . أرأيتم ذلك

القلب الكبير، ذلك القلب العظيم، الذي لم تقف رحمته عند حدود

زوجته أو عند حدود رعيته، أو حتى عند الأطفال لتتجاوز إلى

الحيوان، فيكلم النبي أحد أصحابه في شأن جمل له يجيعه ويذله

وكأن هذا الجمل يشعر ويرى هذا القلب الرحيم حين رأى رسول الله

صلى الله عليه وسلم فتذرف عيناه مرسلة رسالة إلى النبي صلى الله

عليه وسلم صاحب الرحمة المرسَلِ رحمةً للعالمين بكل ما تحمله هذه

الكلمة من معنى. فهو رحمة للناس من عذاب جهنم ومن فيح جهنم،

وهو رحمة للناس في أمور دينهم وهو صلى الله عليه وسلم رحمة حتى

على هذه البهائم، ولهذا يصفه الله عز وجل فيقول ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ

اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّواْ مِنْ

حَوْلِكَ .............الآية. ((لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيز

عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ )) ويصفه حسَّان

رضي الله عنه بأوصاف يعجز عنها البلغاء : ـ وأجمل منك لم ترى قط

عيني وأحسن منك لم تلد النساء خُلقتَ مبرءاً من كل عيـب كأنك قد

خُلقت كما تشاءُ كان عطوفاً عليهم رؤوفاً بهم صلى الله عليه وسلم

ولهذا لاغرو أن يقولوا حين دفنوه صلى الله عليه وسلم : " ما إن

نفضنا التراب عن أيدينا حتى أنكرنا قلوبنا " وكيف لا ينكرون

قلوبهم... لقد غيبوا علماً وحلماً ورحمــةً عشـية واروه الـثـرى

لا يـوسدُ وراحوا بحزنٍ ليس فيهم نبيهم وقد وهنت منهم ظهورٌ

وأعضــدُ ووصف صلى الله عليه وسلم شاعر آخر فقال: وإذا رحمت

فأنــت أمٌّ وأبٌ هـذان في الدنيا هما الرحماءُ وإذا خطبت

فللمنابـر هـزةٌ وإذا وعظت فللقلوب بــكاءُ وإذا غضبت فإنما هي

غضبةٌ لله .. لاحقدٌ ولا شحنــــاءُ هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم

وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم صاحب القلب الكبير، القلب

الرحيم العطوف الذي مع ما يحمله صلى الله عليه وسلم من عبء

الرسالة وهم حمل هذه الديانة والشريعة إلى البشرية كلها مع

ذلك كله يجد في قلبه صلى الله عليه وسلم الغلام مكاناً له،

والحيوان يجد مكاناً له لرأفته ورحمته صلى الله عليه وسلم .

أفبعد ذلك كله نطالب الناس أن يتجردوا عن عواطفهم ومشاعرهم

وعما جبلهم الله عز وجل عليه رابعاً: للعاطفة أثرها الذي ينكر في

إذكاء حماسة المسلمين للجهاد في سبيل الله ونزال العدو، لقد وقف

المسلمون في غزوة مؤتة حين بلغهم جمع الروم وقفوا يتشاورون

ماذا يصنعون ؟ هل يطلبون مدداً من النبي صلى الله عليه وسلم أم

يرجعون ؟ قال ابن اسحاق ثم مضوا حتى نزلوا معانا من أرض الشام

فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من

الروم وانضم إليه من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي مائة ألف

منهم عليهم رجل من بلي ثم أحد أراشة يقال له مالك بن رافلة

وفي رواية يونس عن ابن إسحاق فبلغهم أن هرقل نزل بمآب في مائة

ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة فلما بلغ ذلك المسلمين

أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم وقالوا نكتب إلى رسول

الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال،

وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، قال: فشجع الناسَ عبدُ الله بن

رواحة، وقال: يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون

الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا

بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى

الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة، قال فقال الناس: قد والله صدق

ابن رواحة فمضى الناس. وقال ابن إسحاق فحدثني عبد الله بن أبي

بكر أنه حدث عن زيد بن أرقم قال كنت يتيما لعبد الله ابن رواحة

في حجره فخرج بي في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله فو الله إنه

ليسير ليلتئذ سمعته وهو ينشد أبياته هذه: إذا أدنيتني وحملت

رحلي مسيرة اربع بعد الحســاء فشأنك أنعم وخــلاك ذم ولا أرجع

إلى أهلي ورائي وجاء المسلمون وغادروني بأرض الشام مستنهى

الثواء وردك كل ذي نسب قريب إلى الرحمن منقطع الإخاء هنالك لا

أبالي طلع بـعل ولا نخل أسافلهــا رواء قال زيد فلما سمعتهن

منه بكيت فخفقني بالدرة وقال ما عليك يا لكع أن يرزقني الله

الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل. وكأنك ترى في حال هذا الصحابي

الجليل وقد خرج عقد العزيمة ألا يعود ويسأل الله عزوجل أن يخلفه

المسلمون بأرض الشام . وحين قُتل صاحباه وتقدم، تردد وتلكأ

فقال أبياتاً يستحث فيها نفسه : ـ اقسمت يا نفس لتنزلنــة أو

لتنــــزلنة لتكــرهنة إن أجلب الناس وشدوا الرنة مالــي أراك

تكرهين الجنة؟ فيخاطب نفسه بهذه الأبيات ثم يدفعها إلى ميدان

الشهادة، فيمضي رضي الله عنه مع صاحبيه وهكذا حين تقرأ في

السيرة أنه قبل المعركة يجمع القائد جنده وجيشه فيخاطبهم

ويحمسهم ويحثهم على الاستشهاد في سبيل الله ويبين لهم فضل

الشهادة وفضل الجهاد في سبيل الله، حتى يوقد حماستهم وعزيمتهم

إلى الجهاد في سبيل الله عز وجل أيسوغ بعد ذلك أن ندعوا إلى

إلغاء الحماسة والعاطفة وهو يفعل فعله في النفوس ؟ خامساً:

العاطفة شيء مهم في التربية، وحين يفقد المربي العاطفة، فإنه

ينشأ شاذاً وهي صورة نراها فيمن مات أبوه أو ماتت أمه، وتربى

عند زوجة أبيه أو عند غيرها من النساء التي لاتشعر تجاهه بشعور

الأم الحنون، كيف ينشأ هذا الشاب ؟. ذلك أن ثمة حاجة ملحة لهم

فقدوها ألا وهي الحنان والعاطفة، ولهذا يتربى هذا الشاب بعقل

أبيه وحجر أبيه ويتربى ـ أيضاً ـ بعاطفة أمه ولحكمة بليغة خلق

الله عز وجل العاطفة في الأم، عاطفة تذوب عندها أي عاطفة تلتقي

في نقطة اتزان مع عقل الأب وحصافته فيعيش الشاب ويعيش الطفل

بين هذين الخطين المتوازيين فيعيش متوازياً مستقرًّا . وحين يُشدُ

أحد الخيطين أكثر من صاحبه، أو يفقد أحدهما فإنه يعيش عيشة

غير مستقرة، ومن ثم فلا غنى للصغير عمن يحوطه بالعاطفة، وعمن

يحنّ عليه ويشفق عليه . وحين ينشأ خلاف ذلك فإن الغالب فيه أن

ينشأ فاقداً لهذا الأحساس، وفاقداً لهذا الشعور . إننا مع ذلك

كله نسمع من يدعو إلى إلغاء العاطفة، بل من يُدرج العاطفة ضمن

مراتب الجرح، فيصف فلاناُ بأنه صاحب عاطفة، أو بأنه متحمس، وكم

نرى العتبى واللوم على ذاك الذي أغاظه انتهاك حرمة من حُرم الله

عز وجل فدارت حماليق عينه وغضب لله عز وجل، حينئذ يوصف بأنه

متحمس، طائش، وبأنه لا يحسب عواقب الأمور . أما ذاك الذي يرى

المنكرات ويرى مصائب المسلمين ويرى جسد المسلمين يُقطع إرباً

إرباً ومع ذلك لا تهتز مشاعره، ولا تتحرك عواطفه، ذاك يوصف بأنه

رجل حكيم حصيف لبيب يضع الأمور في مواضعها !! إنني أحسب أن هذه

قسمة ضيزى، أحسب أن هذا جوراً في الحكم . ولقد كان الغضب

والحمية لدين الله عز وجل خُلقاً عند أصحاب النبي صلى الله عليه

وسلم ، بل قبل ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم، كان صلى الله

عليه وسلم هيِّناً سهلاً ليِّناً فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه

شيء ويوصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم كانوا يتناشدون

الشعر فإذا أريد أحدهم على دينه ( دارت حماليق عينه ) أليس

هذا تعبيراً عن الغضب والغيرة لحرمات الله عز وجل فكيف نصنع بتلك

المواقف من سلف الأمة التي وقفوا فيها غضباً وحمية لدين الله عز

وجل وقالوا كلمة الحق مدويَّة مجلجلة واضحة صريحة ! قالوها ولا

شك أن الذي دفعهم لذلك الحماس والغضب لله . نعم لكنها عاطفة

صادقة و حماسة صادقة، فالمطالبة بإلغاء الحماسة والعاطفة،

مطالبة بتغيير خلق الله عز وجل، وتغيير سجية فطر الله سبحانه

عباده عليها . وكما أننا ننكر على من يكون دافعه ووقوده

الحماس والعاطفة وحدها، فإننا أيضاً ينبغي أن ننكر وبنفس القدر

على ذاك المتبلد الحس، الذي يرى مصائب المسلمين، ويرى دماء

المسلمين تجري ويرى حُرُمات الله تُنتهك ويرى دين الله عز وجل يُنقض

عروة عروة، ومع ذلك لا يحرك فيه ساكناً، ولا يثير فيه حمية، ولا

يغضب لله عز وجل . ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن الشق الثاني،

وهو : الإغراق في العاطفة: إن الوسط سنة الله عز وجل في الحياة،

فالمسجد الذي نصلي فيه، حين يزداد فيه التبريد يصبح حدًّا

مزعجاً، لا نطيق الصبر عليه، وحين ينقص عن القدر المعقول، يؤلم

الناس الحر، ويزعجهم فلا يُطيقون الصبر عليه . وهكذا الطعام حين

يكون بالغ العذوبة لا يستسيغه المرء، وحين يكون بالغ الملوحة

كذلك، وشأن الله عز وجل في الحياة كلها " الوسط " . والتطرف أمر

مرفوض، و دين الله عز وجل قائم على الوسط. وهو وسط بين الغلو

والجفاء، فكما أن إهمال العاطفة وإلغائها أمر مرفوض، فالإغراق

فيها والتحليق في التجاوب معها هو الآخر أمر مرفوض وينبغي أن

نكون وسطاً بين هذا وذاك . وإن كنا أفضنا في الحديث عن الشق

الأول إلا أنني أرى أننا ـ معشر جيل الصحوة ـ أحوج ما نكون إلى

الحديث عن الشق الثاني وهو الإغراق في العاطفة . فنحن نعاني من

إغراق في العاطفة، تختلف في صورها ومظاهرها، ومجالاتها .

الصورة الأولى: أن تحكمنا العاطفة في الحكم والتقويم، فحين

نحكم على فلان من الناس، سلباً أو إيجاباً، وحين نحكم على عمل من

الأعمال الإصلاحية، والأعمال الإسلامية، وحين نقوَّم الناس، فإننا لا

يسوغ أن نندفع وراء عواطفنا، فنفرط في المدح والثناء، ونُحلِّق

في أجوائها بعيداً عن الرؤية الأخرى ـ أي جوانب القصور، وجوانب

الخلل ـ . فلا يسوغ حين نقوَّم أعمالنا وجهودنا، أن تكون العاطفة

هي المعيار الأوحد للتقويم والحكم، ومن يحكَّم العاطفة في حكمه،

لابد أن يكون شخصية متطرفة إما ثناءً أو ذمًّا، إما سلباً أو

إيجاباً. كثيرة هي الأحكام التي نطلقها من وحي العاطفة فقط، في

أحكامنا ومواقفنا من الرجال والأعمال والجهود والمواقف، كثيراً

ما يكون الحاكم الأول والأخير، والقاضي والشهود والمدعي هو

العاطفة وحدها. وحينئذ لابد أن يكون الحكم حكماً جائراً، حكماً

بعيداً عن العدل، إننا ومع تأكيدنا على أن الثناء على من يُحسن

أمر مطلوب، وأن الإعجاب بمن يستحق الإعجاب أمر لا يُدعى إلى

إلغائه والتخلي عنه. لكننا مع ذلك لا يسوغ أن نُفرِط، ولا يسوغ أن

تحكمنا العاطفة وحدها في ذلك، وكثيراً ما تتحكم العاطفة في

تقويم مواقف كثيرة من مواقف العمل الإسلامي، فتقود إلى نتائج

مؤلمة . اضرب لكم مثالاً : تجربة عشناها، كنا أغرقنا فيها،

وتجاوبنا فيها مع العاطفة أكثر مما ينبغي، تجربة الجهاد

الأفغاني، لقد بدأ هذا الجهاد، وقد نسيت الأمة الجهاد كله، بدأ

وقد ضرب على الأمة الذل والهوان، وظنت الأمة أنها لن تعرف

الجهاد ولن ترى الجهاد. وصار حتى الذين يُدرِّسون الفقه يقفز

بعضهم باب الجهاد لأنه لم يعد له مجال وميدان، فجاء أولئك

وأحيوا في الأمة هذه الفريضة، وأحيوا سنة قد أُميتت وفريضة قد

نسيتها الأمة، وحينئذ استفاقت الأمة، استفاقت على هذا الصوت،

واستفاقت إلى داعي الجهاد، وصدمت بأولئك الذين خرجوا في تلك

البلاد وقاموا لله عز وجل وأحيوا الجهاد في سبيل الله، وكان جهاداً

حقًّا ولا شك، وقام بدور في إحياء الأمة ولا شك، لا يسوغ أبداً أن

يُطوى، ولا يسوغ أن يُهمل لكن الذي حصل أننا أغرقنا كثيراً في

العاطفة . لقد بدأ الجهاد وفيه أخطاء ـ شأن البشر ـ وفيه

انحرافات ـ شأن البشر ـ وفيه خلافات ـ شأن جهود البشر ـ فما

بالكم بهذا الواقع الذي تعيشه الأمة، وما الجهاد الأفغاني، وما

الأعمال الإسلامية كلها إلا إفراز لواقع الأمة الذي تعيشه . وبدأ

الجهاد وفيه ما فيه، من خطأ وخلل وفرقة وانحراف وفي الصف

منافقون، ومع ذلك كله كان جهاداً شرعيًّا، كان جهاداً يستحق الدعم

من الأمة، وأن تقف في صفه، لكن الذي حصل أننا أغرقنا في

العاطفة فرفعنا منزلة أولئك إلى منزلة قريبة من أصحاب النبي

صلى الله عليه وسلم وإلى الملائكة، وصرنا نفرط في الحديث عن

الكرامات، ونستدل بها ومنها ما كان صحيحاً، وما كان منها لا

يقبله عقل ولا منطق، بل ما كان منها من رواية أهل الخرافة

الذين اعتدنا منهم هذه الأباطيل، وصرنا نتهم من يُشككُ في شيء

منها بأنه من المخذلين، صرنا نتهم من يتحدث عن أخطاء الجهاد،

وعن أخطاء المجاهدين ومن يُطالب بتنقية الصف، بأنه من

المعوقين، فكنا دائماً نسمع التستر على الأخطاء، ودفن العيوب

وكنا نتجاوب في عاطفة جيّاشة، ونتصور أن ذكر الأخطاء والحديث

عنها لا ينبغي، ولا يحقق المصلحة ويجعل الأمة لا تتجاوب مع هذا

الجهاد، وطال عمر الجهاد وجاء وقت قطف الثمر، وما الذي حصل؟!

وماذا كان موقف الناس ؟! إن موقفنا لا يزال، لازلنا غير آسفين

على ريال واحد قدمناه للمجاهدين، ولا زلنا غير آسفين على كلمة

قلناها في دعمهم لأنا نرى أنها كلمة حق، ولا زلنا لم نغيِّر

مواقفنا . لكننا نرى أنا نحن السبب في هذا الخطأ، حيث كنا

نتجاوب مع العاطفة كثيراً، ونرفض الموضوعية، ونرفض النقد،

ونرفض المصارحة، حيث إن الجهاد أوقد عاطفة في نفوسنا، لم

نستطع أن نضبطها، ونحكمها فيما بعد، حتى وصلنا إلى هذه

المرحلة، التي يدمينا جميعاً ويؤلمنا أن نسمع تصريح الزعيم

الروسي السابق " جورباتشوف " حين يقول: ( لو علمنا أن الأفغان

سيصنعون ما صنعوا لسَلَّمناهم كابول منذ زمن بعيد !! ) . كم يدرك

قلبك المأساة والحزن والأسى وأنت ترى الآن السلاح الذي كان وراءه

أموال المسلمين، وترى أولئك الذين صعدوا على جماجم الشهداء من

كل بقاع المسلمين، ترى أخاهم يوجِّه السلاح والرصاص لأخيه. إنني

هنا لست بصدد تقويم هذا العمل، وهذا الجهاد - وهو مع ذلك لا

يزال مفخرة من مفاخر الأمة، وإنجازاً من إنجازاتها- لكن الشاهد

هنا أننا في تعاملنا مع هذا الحدث كنا نتجاوب كثيراً مع

العاطفة، وكنا نُمارس الإرهاب الفكري ونمارس التثبيط ضد أي صوت

ناصح يدعو إلى تنقية الصف ويدعو إلى تصحيح المسيرة، وأخشى ـ

أيضاً ـ أن يقع الخطأ مثله وها نحن الآن نشهد الصحوة المباركة،

مع ما فيها من إنجازات ففيها أمراض بحاجة إلى علاج، بحاجة إلى

مراجعة، بحاجة إلى مصارحة، بحاجة إلى أن تتحدث عن أخطائها،

تحت ضوء الشمس وفي وَضَح النهار، فأرجو أن لا تسيطر علينا

العاطفة مرة أخرى، فتدعونا إلىالتستر على الأخطاء، ودفن

العيوب، حتى تستفحل حينئذ وتستعصي على العلاج والمداواة . إذن

من الإغراق في العاطفة أن تكون العاطفة وسيلة للحكم والتقويم

 01-01-2010  |  6964 مشاهدة

مواضيع اخرى ضمن  العلاقات النفسية والعاطفية


 

دورات واعي الأسرية


 
 

إستطلاع الرأي المخصص لهذا اليوم!


هل ترى أهمية لحضور دورات عن العلاقة الخاصة بين الزوجين :

    
    
    
    
 

ناصح بلغة الأرقام


4008

الإستشارات

876

المقالات

35

المكتبة المرئية

24

المكتبة الصوتية

78

مكتبة الكتب

13

مكتبة الدورات

444

معرض الصور

84

الأخبار

 

إنضم إلى ناصح على شبكات التواصل الإجتماعي


 

حمل تطبيق ناصح على الهواتف الذكية


 

إنضم إلى قائمة ناصح البريدية


ليصلك جديدنا من فضلك أكتب بريدك الإلكتروني